المختار في الرد على أهل الكتاب للجاحظ/اختيار عبيد الله بن حسان (مع
الجاحظ في رسالة الرد على النصارى لإبراهيم عوض) من ويكي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي من علينا بتوحيده، وجعلنا ممن ينفي شبهة خلقه وسياسة
عباده، وجعلنا لا نفرق بين أحد من رسله، ولا نجحد كتابا أوجب علينا الإقرار به،
ولا نضيف إليه ما ليس منه، إنه حميد مجيد، فعال لما يريد.
أما بعد. فقد قرأت كتابكم، وفهمت ما ذكرتم فيه من مسائل النصارى
قبلكم، وما دخل على قلوب أحداثكم وضعفائكم من اللبس، والذي خفتموه على جواباتهم من
العجز، وما سألتم من إقرارهم بالمسائل، ومن حسن معونتهم بالجواب.
وذكرتم أنهم قالوا: إن الدليل على أن كتابنا باطل، وأمرنا فاسد، أننا
ندعي عليهم ما لا يعرفونه فيما بينهم، ولا يعرفونه من أسلافهم، لأنا نزعم أن الله
جل وعز قال في كتابه على لسان نبيه محمد ﷺ: {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت
قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله}، وأنهم زعموا أنهم لم يدينوا قط بأن
مريم إله في سرهم، ولا ادعوا ذلك قط في علانيتهم. وأنهم زعموا أنا ادعينا عليهم ما
لا يعرفون، كما ادعينا على اليهود ما لا يعرفون، حين نطق كتابنا، وشهد نبينا: أن
اليهود قالوا: إن عزيرا ابن الله، وإن يد الله مغلولة، وإن الله فقير وهم أغنياء.
وهذا ما لا يتكلم به إنسان، ولا يعرف في شيء من الأديان.
ولو كانوا يقولون في عزير ما نحلتمون وادعيتموه، لما جحدوه من دينهم،
ولما أنكروا أن يكون من قولهم، ولما كانوا بإنكار بنوة عزير أحق منا بإنكار بنوة
المسيح، ولما كان علينا منكم بأس بعد عقد الذمة، وأخذ الجزية.
وذكرتم أنهم قالوا: ومما يدل على غلطكم في الأخبار، وأخذكم العلم عن
غير الثقات، أن كتابكم ينطق: أن فرعون قال لهامان: ابن لي صرحا. وهامان لم يكن إلا
في زمن الفرس، وبعد زمن فرعون بدهر طويل، وإن ذلك معروف عند أصحاب الكتب، مشهور
عند أهل العلم. وإنما اتخذ صرحا ليكون إذا علاه أشرف على الله. وفرعون لا يخلو من
أن يكون جاحدا لله تعالى، أو مقرا به. فإن كان دينه عند نفسه وأهل مملكته نفي الله
وجحده، فما وجه اتخاذ الصرح وطلب الإشراف، وليس هناك شيء ولا إله؟ وإن كان مقرا
بالله عارفا به، فلا يخلو من أن يكون مشبها أو نافيا للتشبيه. فإن كان ممن ينفي
الطول والعرض والعمق والحدود والجهات، فما وجه طلبه له في مكان بعينه، وهو عنده
بكل مكان؟ وإن كان مشبها فقد علم أنه ليس في طاقة بني آدم أن يبنوا بنيانا أو
يرفعوا صرحا يخرق سبع سموات بأعماقهن، والأجزاء التي بينهن، حتى يحاذي العرش ثم
يعلوه.
وفرعون وإن كان كافرا فلم يكن مجنونا، ولا كان إلى نقص العقل من بين
الملوك منسوبا. على أن الحكم قد يقوم بعقول الملوك بالفضيلة على عقول الرعية.
وذكرتم أنهم قالوا: تزعمون أن الله تعالى ذكر يحيى بن زكريا يخبر أنه
لم يجعل له من قبل سميا، وأنهم يجدون في كتبهم وفيما لا يختلف فيه خاصتهم وعامتهم
أنه كان من قبل يحيى بن زكريا غير واحد يقال له يحيى، منهم يوحنا بن فرح.
وزعمتم أنهم قالوا لكم: إنكم ذكرتم أن الله قال في كتابه لنبيكم:
{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}،
وإنما عنى بقوله أهل الذكر أهل التوراة، وأصحاب الكتب يقولون: إن الله قد بعث من
النساء نبيات، منهم مريم بنت عمران، وبعث منهم حنة، وسارة، ورفقى.
وذكرتم أنهم قالوا: زعمتم أن عيسى تكلم في المهد، ونحن على تقديمنا
له، وتقريبنا لأمره وإفراطنا بزعمكم فيه، على كثرة عددنا وتفاوت بلادنا واختلافنا
فيما بيننا، لا نعرف ذلك ولا ندعيه، وكيف ندعيه ولم نسمعه عن سلف ولا ادعاه منا
مدع.
ثم هذه اليهود لا تعرف ذلك، وتزعم أنها لم تسمع به إلا منكم، ولا
تعرفه المجوس، ولا الصابئون، ولا عباد البددة من الهند وغيرهم، ولا الترك والخزر،
ولا بلغنا ذلك عن أحد من الأمم السالفة، والقرون الماضية، ولا في الإنجيل، ولا في
ذكر صفات المسيح في الكتب والبشارات به على ألسنة الرسل.
ومثل هذا لا يجوز أن يجهله الولي والعدو، وغير الولي وغير العدو، ولا
يضرب به مثل، ولا يروح به الناس، ثم يجمع النصارى على رده، مع حبهم لتقوية أمره.
ولم يكونوا ليضادوكم فيما يرجع عليهم نفعه. وكيف لم يكذبوكم في إحيائه الموتى،
ومشيه على الماء، وإبراء الأكمه والأبرص؟ بل لم يكونوا ليتفقوا على إظهار خلاف
دينهم وإنكار أعظم حجة كانت لصاحبهم، ومثل هذا لا ينكتم ولا ينفك ممن يخالف وينم.
والكلام في المهد أعجب من كل عجب، وأغرب من كل غريب، وأبدع من كل
بديع؛ لأن إحياء الموتى والمشي على الماء، وإقامة المقعد، وإبراء الأعمى، وإبراء
الأكمه قد أتت به الأنبياء، وعرفه الرسل، ودار في أسماعهم. ولم يتكلم صبي قط، ولا
مولود في المهد. وكيف ضاعت هذه الآية، وسقطت حجة هذه العلامة من بين كل علامة؟
وبعد، فكل أعجوبة يأتي بها الرجال، والمعروفون بالبيان، والمنسوبون
إلى صواب الرأي، تكون الحيلة في الظن إليها أقرب، وخوف الخدعة عليها أغلب. والصبي
المولود عاجز في الفطرة، ممتنع من كل حيلة، لا يحتاج فيه إلى نظر، ولا يشبهه من
شاهده بدخل.
فصل منه
وسنقول في جميع ما ورد علينا من مسائلكم، وفيما لا يقع إليكم من
مسائلهم، بالشواهد الظاهرة، والحجج القوية، والأدلة الاضطرارية. ثم نسألهم بعد
جوابنا إياهم عن وجوه يعرفون بها انتقاض قولهم، وانتشار مذهبهم، وتهافت دينهم.
ونحن نعوذ بالله من التكلف وانتحال ما لا نحسن، ونسأله القصد في
القول والعمل، وأن يكون ذلك لوجهه، ولنصرة دينه، إنه قريب مجيب.
فأنا مبتدىء في ذكر الأسباب التي لها صارت النصارى أحب إلى العوام من
المجوس، وأسلم صدورا عندهم من اليهود، وأقرب مودة، وأقل غائلة، وأصغر كفرا، وأهون
عذابا. ولذلك أسباب كثيرة، ووجوه واضحة، يعرفها من نظر، ويجهلها من لم ينظر.
أول ذلك أن اليهود كانوا جيران المسلمين بيثرب وغيرها، وعداوة
الجيران شبيهة بعداوة الأقارب في شدة التمكن وثبات الحقد، وإنما يعادي الإنسان من يعرف،
ويميل على من يرى، ويناقض من يشاكل، ويبدو له عيوب من يخالط. وعلى قدر الحب والقرب
يكون البغض والبعد، ولذلك كانت حروب الجيران وبني الأعمام من سائر الناس وسائر
العرب أطول، وعداوتهم أشد.
فلما صار المهاجرون لليهود جيرانا، وقد كانت الأنصار متقدمة الجوار،
مشاركة في الدار، حسدتهم اليهود على النعمة في الدين، والاجتماع بعد الافتراق،
والتواصل بعد التقاطع، وشبهوا على العوام، واستمالوا الضعفة، ومالئوا الأعداء
والحسدة، ثم جاوزوا الطعن وإدخال الشبهة، إلى المناجزة والمنابذة بالعداوة، فجمعوا
كيدهم، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في قتالهم، وإخراجهم من ديارهم، وطال ذلك واستفاض
فيهم وظهر، وترادف لذلك الغيظ، وتضاعف البغض، وتمكن الحقد.
وكانت النصارى لبعد ديارهم، من مبعث النبي ﷺ ومهاجره، لا يتكلفون
طعنا، ولا يثيرون كيدا، ولا يجمعون على حرب. فكان هذا أول أسباب ما غلظ القلوب على
اليهود، ولينها على النصارى.
ثم كان من أمر المهاجرين إلى الحبشة، واعتمادهم على تلك الجنبة ما
حببهم إلى عوام المسلمين. وكلما لانت القلوب لقوم غلظت على أعدائهم، وبقدر ما نقص
من بغض النصارى زاد في بغض اليهود.
ومن شأن الناس حب من اصطنع إليهم خيرا أو جرى على يديه، أراد الله
بذلك أو لم يرده، وبقصد كان أم باتفاق.
وأمر آخر، وهو من أمتن أسبابهم وأقوى أمورهم، وهو تأويل آية غلطت
فيها العامة حتى نازعت الخاصة، وحفظتها النصارى واحتجت بها، واستمالت قلوب الرعاع
والسفلة، وهو قول الله تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين
أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} إلى قوله: {وذلك
جزاء المحسنين}
وفي نفس الآية أعظم الدليل على أن الله تعالى لم يعن هؤلاء النصارى
ولا أشباههم: الملكانية واليعقوبية، وإنما عنى ضرب بحيرا وضرب الرهبان الذين كان
يخدمهم سلمان.
وبين حمل قوله {الذين قالوا إنا نصارى} على الغلط منهم في الأسماء
وبين أن نجزم عليهم لأنهم نصارى فرق.
كما ذكر اليهود أنه جاء الإسلام وملوك العرب رجلان غساني ولخمي، وهما
نصرانيان، وقد كانت العرب تدين لهما، وتؤدي الإتاوة لهما، فكان تعظيم قلوبهم لهما
راجعا إلى تعظيم دينهما.
وكانت تهامة، وإن كانت لقاحا لا تدين الدين، ولا تؤدي الإتاوة، ولا
تدين للملوك، فإنها كانت لا تمتنع من تعظيم ما عظم الناس، وتصغير ما صغروا.
ونصرانية النعمان وملوك غسان مشهورة في العرب، معروفة عند أهل النسب،
ولولا ذلك لدللت عليها بالأشعار المعروفة، والأخبار الصحيحة.
وقد كانت تتجر إلى الشام، وينفذ رجالها إلى ملوك الروم، ولها رحلة في
الشتاء والصيف، في تجارة مرة إلى اليمن، ومرة قبل الشام، ومصيفها بالطائف، فكانوا
أصحاب نعمة، وذلك مشهور مذكور في القرآن وعند أهل المعرفة. وقد كانت تهاجر إلى
الحبشة، وتأتي باب النجاشي وافدة، فيحبوهم بالجزيل، ويعرف لهم الأقدار. ولم تكن
تعرف كسرى، ولا تأنس بهم.
وقيصر والنجاشي نصرانيان، فكان ذلك أيضا للنصارى دون اليهود. والآخر
من الناس تبع للأول في تعظيم من عظم، وتصغير من صغر.
وأخرى أن العرب كانت النصرانية فيها فاشية، وعليها غالبة، إلا مضر،
فلم تغلب عليها يهودية ولا مجوسية، ولم تفش فيها النصرانية، إلا ما كان من قوم
منهم نزلوا الحيرة يسمون العباد، فإنهم كانوا نصارى، وهم مغمورون مع نبذ يسير في
بعض القبائل. ولم تعرف مضر إلا دين العرب، ثم الإسلام.
وغلبت النصرانية على ملوك العرب وقبائلها: على لخم، وغسان، والحارث
بن كعب بنجران، وقضاعة، وطي، في قبائل كثيرة، وأحياء معروفة. ثم ظهرت في ربيعة
فغلبت على تغلب وعبد القيس وأفناء بكر، ثم في آل ذي الجدين خاصة.
وجاء الإسلام وليست اليهودية بغالبة على قبيلة، إلا ما كان من ناس من
اليمانية، ونبذ يسير من جميع إياد وربيعة. ومعظم اليهودية إنما كانت بيثرب وحمير
وتيماء ووادي القرى، في ولد هارون، دون العرب.
فعطف قلوب دهماء العرب على النصارى الملك الذي كان فيهم، والقرابة
التي كانت لهم. ثم رأت عوامنا أن فيها ملكا قائما، وأن فيهم عربا كثيرة، وأن بنات
الروم ولدن لملوك الإسلام، وأن في النصارى متكلمين وأطباء ومنجمين، فصاروا بذلك
عندهم عقلاء وفلاسفة وحكماء، ولم يروا ذلك في اليهود.
وإنما اختلفت أحوال اليهود والنصارى في ذلك لأن اليهود ترى أن النظر
في الفلسفة كفر، والكلام في الدين بدعة، وأنه مجلبة لكل شبهة، وأنه لا علم إلا ما
كان في التوراة وكتب الأنبياء، وأن الإيمان بالطب وتصديق المنجمين من أسباب
الزندقة والخروج إلى الدهرية، والخلاف على الأسلاف وأهل القدوة، حتى إنهم ليبهرجون
المشهور بذلك، ويحرمون كلام من سلك سبيل أولئك.
ولو علمت العوام أن النصارى والروم ليست لهم حكمة ولا بيان، ولا بعد
روية، إلا حكمة الكف، من الخرط والنجر والتصوير، وحياكة البزيون، لأخرجتهم من حدود
الأدباء، ولمحتهم من ديوان الفلاسفة والحكماء؛ لأن كتاب المنطق والكون والفساد،
وكتاب العلوي، وغير ذلك، لأرسطاطاليس، وليس برومي ولا نصراني. وكتاب المجسطي لبطليموس،
وليس برومي ولا نصراني. وكتاب إقليدس لإقليدس، وليس برومي ولا نصراني. وكتاب الطب
لجالينوس، ولم يكن روميا ولا نصرانيا. وكذلك كتب ديمقراط وبقراط وأفلاطون، وفلان
وفلان. وهؤلاء ناس من أمة قد بادوا وبقيت آثار عقولهم، وهم اليونانيون، ودينهم غير
دينهم، وأدبهم غير أدبهم. أولئك علماء، وهؤلاء صناع أخذوا كتبهم لقرب الجوار،
وتداني الدار، فمنها ما أضافوه إلى أنفسهم، ومنها ما حولوه إلى ملتهم. إلا ما كان
من مشهور كتبهم، ومعروف حكمهم، فإنهم حين لم يقدروا على تغيير أسمائها زعموا أن
اليونانيين قبيل من قبائل الروم، ففخروا بأديانهم على اليهود، واستطالوا بها على
العرب، وبذخوا بها على الهند، حتى زعموا أن حكماءنا أتباع حكمائهم، وأن فلاسفتنا
اقتدوا على أمثالهم، فهذا هذا.
ودينهم -يرحمك الله- يضاهي الزندقة، ويناسب في بعض وجوهه قول
الدهرية، وهم من أسباب كل حيرة وشبهة. والدليل على ذلك أنا لم نر أهل ملة قط أكثر
زندقة من النصارى، ولا أكثر متحيرا أو مترنحا منهم. وكذلك شأن كل من نظر في الأمور
الغامضة بالعقول الضعيفة: ألا ترى أن أكثر من قتل في الزندقة ممن كان ينتحل
الإسلام ويظهره، هم الذين آباؤهم وأمهاتهم نصارى. على أنك لو عددت اليوم أهل الظنة
ومواضع التهمة لم تجد أكثرهم إلا كذلك.
ومما عظمهم في قلوب العوام، وحببهم إلى الطغام، أن منهم كتاب
السلاطين، وفراشي الملوك، وأطباء الأشراف، والعطارين والصيارفة. ولا تجد اليهودي
إلا صباغا، أو دباغا، أو حجاما، أو قصابا، أو شعابا.
فلما رأت العوام اليهود والنصارى توهمت أن دين اليهود في الأديان
كصناعتهم في الصناعات، وأن كفرهم أقذر الكفر، إذ كانوا هم أقذر الأمم.
وإنما صارت النصارى أقل مساخة من اليهود، على شدة مساخة النصارى، لأن
الإسرائيلي لا يزوج إلا الإسرائيلي، وكل مناكحهم مردودة فيهم، ومقصورة عليهم، وكانت
الغرائب لا تشوبهم، وفحولة الأجناس لا تضرب ولا تضرب فيهم، لم ينجبوا في عقل ولا
أسر ولا ملح. وإنك لتعرف ذلك في الخيل والإبل والحمير والحمام.
ونحن -رحمك الله- لم نخالف العوام في كثرة أموال النصارى، وأن فيهم
ملكا قائما، وأن ثيابهم أنظف، وأن صناعتهم أحسن.
وإنما خالفنا في فرق ما بين الكفرين والفرقتين، في شدة المعاندة
واللجاجة، والإرصاد لأهل الإسلام بكل مكيدة، مع لؤم الأصول، وخبث الأعراق.
فأما الملك والصناعة والهيئة، فقد علمنا أنهم اتخذوا البراذين
الشهرية، والخيل العتاق، واتخذوا الجوقات، وضربوا بالصوالجة، وتحذفوا المديني،
ولبسوا الملحم والمطبقة، واتخذوا الشاكرية، وتسموا بالحسن والحسين، والعباس وفضل
وعلي، واكتنوا بذلك أجمع، ولم يبق إلا أن يتسموا بمحمد، ويكتنوا بأبي القاسم. فرغب
إليهم المسلمون، وترك كثير منهم عقد الزنانير، وعقدها آخرون دون ثيابهم، وامتنع
كثير من كبرائهم من إعطاء الجزية، وأنفوا مع أقدارهم من دفعها، وسبوا من سبهم،
وضربوا من ضربهم.
وما لهم لا يفعلون ذلك وأكثر منه، وقضاتنا أو عامتهم يرون أن دم
الجاثليق والمطران والأسقف وفاء بدم جعفر وعلي والعباس وحمزة. ويرون أن النصراني
إذا قذف أم النبي ﷺ بالغواية أنه ليس عليه إلا التعزير والتأديب، ثم يحتجون أنهم
إنما قالوا ذلك لأن أم النبي ﷺ لم تكن مسلمة. فسبحان الله العظيم ما أعجب هذا
القول وأبين انتشاره. ومن حكم النبي ﷺ: أن لا يساوونا في المجلس، ومن قوله: وإن
سبوكم فاضربوهم، وإن ضربوكم فاقتلوهم. وهم إذا قذفوا أم النبي عليه السلام
بالفاحشة لم يكن له عند أمته إلا التعزير والتأديب. وزعموا أن افتراءهم على النبي
ليس بنكث للعهد، ولا بنقض للعقد.
وقد أمر النبي عليه السلام أن يعطونا الضريبة عن يد منا عالية في
قبولنا منهم، وعقدنا لذمتهم، دون إراقة دمهم. وقد حكم الله تعالى عليهم بالذلة
والمسكنة.
أوما ينبغي للجاهل أن يعلم أن الأئمة الراشدين والسلف المتقدمين لم يشترطوا
عند أخذ الجزية وعقد الذمة عدم الافتراء على النبي ﷺ وأمته، إلا لأن ذلك عندهم
أعظم في العيون وأجل في الصدور من أن يحتاجوا إلى تخليده في الكتب، وإلى إظهار
ذكره بالشرط، وإلى تثبيته بالبينات. بل لو فعلوا ذلك لكان فيه الوهن عليهم،
والمطمعة فيهم، ولظنوا أنهم في القدر الذي يحتاج فيه إلى هذا وشبهه.
وإنما يتواثق الناس في شروطهم، ويفسرون في عهودهم ما يمكن فيه
الشبهة، أو يقع فيه الغلط، أو يغبى عنه الحاكم، وينساه الشاهد، ويتعلق به الخصم،
فأما الواضح الجلي، والظاهر الذي لا يخيل فما وجه اشتراطه، والتشاغل بذكره. وأما
ما احتاجوا إلى ذكره في الشروط، وكان مما يجوز أن يظهر في العهد فقد فعلوه، وهو
كالذلة والصغارة، وإعطاء الجزية، ومقاسمة الكنائس، وأن لا يعينوا بعض المسلمين على
بعض، وأشباه ذلك. فأما أن يقولوا لمن هو أذل من الذليل، وأقل من القليل، وهو
الطالب الراغب في أخذ فديته، والإنعام عليه بقبض جزيته وحقن دمه: نعاهدك على أن لا
تفتري على أمة رسول رب العالمين، وخاتم النبيين، وسيد الأولين والآخرين. فهذا ما
لا يجوز في تدبير أوساط الناس. فكيف بالجلة والعلية، وأئمة الخليقة، ومصابيح
الدجى، ومنار الهدى، مع أنفة العرب، وبأو السلطان، وغلبة الدولة، وعز الإسلام،
وظهور الحجة، والوعد بالنصرة.
على أن هذه الأمة لم تبتل باليهود، ولا المجوس، ولا الصابئين كما
ابتليت بالنصارى. وذلك أنهم يتبعون المتناقض من أحاديثنا، والضعيف بالأسناد من
روايتنا، والمتشابه من آي كتابنا، ثم يخلون بضعفائنا، ويسألون عنها عوامنا، مع ما
قد يعلمون من مسائل الملحدين، والزنادقة الملاعين، وحتى مع ذلك ربما [تجرءوا] إلى
علمائنا، وأهل الأقدار منا، ويشغبون على القوي، ويلبسون على الضعيف.
ومن البلاء أن كل إنسان من المسلمين يرى أنه متكلم، وأنه ليس أحد أحق
بمحاجة الملحدين من أحد.
وبعد، فلولا متكلمو النصارى وأطباؤهم ومنجموهم ما صار إلى أغبيائنا
وظرفائنا ومجاننا وأحداثنا شيء من كتب المنانية، والديصانية، والمرقونية،
والفلانية، ولما عرفوا غير كتاب الله تعالى، وسنة نبيه ﷺ، ولكانت تلك الكتب مستورة
عند أهلها، ومخلاة في أيدي ورثتها. فكل سخنة عين رأيناها في أحداثنا وأغبيائنا فمن
قبلهم كان أولها.
وأنت إذا سمعت كلامهم في العفو والصفح، وذكرهم للسياحة، وزرايتهم على
كل من أكل اللحمان، ورغبتهم في أكل الحبوب وترك الحيوان، وتزهيدهم في النكاح،
وتركهم لطلب الولد، ومديحهم للجاثليق والمطران والأسقف والرهبان بترك النكاح وطلب
النسل، وتعظيمهم الرؤساء علمت أن بين دينهم وبين الزندقة نسبا، وأنهم يحنون إلى
ذلك المذهب.
والعجب أن كل جاثليق لا ينكح، ولا يطلب الولد. وكذلك كل مطران، وكل
أسقف. وكذلك كل أصحاب الصوامع من اليعقوبية، والمقيمين في الديارات والبيوت من
النسطورية. وكل راهب في الأرض وراهبة، مع كثرة الرهبان والرواهب، ومع تشبه أكثر
القسيسين بهم في ذلك، ومع ما فيهم من كثرة الغزاة، وما يكون فيهم مما يكون في
الناس، من المرأة العاقر، والرجل العقيم. على أن من تزوج منهم امرأة لم يقدر على
الاستبدال بها، ولا على أن يتزوج أخرى معها، ولا على التسري عليها. وهم مع هذا قد
طبقوا الأرض، وملئوا الأفاق، وغلبوا الأمم بالعدد، وبكثرة الولد. وذلك مما زاد في
مصائبنا، وعظمت به محنتنا. ومما زاد فيهم، وأنمى عددهم، أنهم يأخذون من سائر
الأمم، ولا يعطونهم، لأن كل دين جاء بعد دين، أخذ منه الكثير، وأعطاه القليل.
فصل منه
ومما يدل على قلة رحمتهم وفساد قلوبهم أنهم أصحاب الخصاء من بين جميع
الأمم، والخصاء أشد المثلة، وأعظم ما ركب به إنسان، ثم يفعلون ذلك بأطفال لا ذنب
لهم، ولا دفع عندهم. ولا نعرف قوما يعرفون بخصاء الناس حيث ما كانوا إلا ببلاد
الروم والحبشة، وهم في غيرهما قليل، وأقل قليل. على أنهم لم يتعلموا إلا منهم، ولا
كان السبب في ذلك غيرهم. ثم خصوا أبناءهم وأسلموهم في بيعهم. وليس الخصاء إلا في
دين الصابئين، فإن العابد ربما خصى نفسه، ولا يستحل خصاء ابنه. فلو تمت إرادتهم في
خصاء أولادهم في ترك النكاح وطلب النسل كما حكيت لك قبل هذا لانقطع النسل، وذهب
الدين، وفتن الخلق.
والنصراني وإن كان أنظف ثوبا، وأحسن صناعة، وأقل مساخة، فإن باطنه
ألأم وأقذر وأسمج، لأنه أقلف، ولا يغتسل من الجنابة، ويأكل لحم الخنزير، وامرأته
جنب لا تطهر من الحيض، ولا من النفاس، ويغشاها في الطمث، وهي مع ذلك غير مختونة.
وهم مع شرارة طبائعهم، وغلبة شهواتهم ليس في دينهم مزاجر كنار الأبد
في الآخرة، وكالحدود والقود والقصاص في الدنيا. فكيف يجانب ما يفسده ويؤثر ما
يصلحه من كانت حاله كذلك. وهل يصلح الدنيا من هو كما قلنا؟ وهل يهيج على الفساد إلا
من وصفنا؟!
ولو جهدت بكل جهدك، وجمعت كل عقلك أن تفهم قولهم في المسيح، لما قدرت
عليه، حتى تعرف به حد النصرانية، وخاصة قولهم في الإلهية.
وكيف تقدر على ذلك وأنت لو خلوت ونصراني نسطوري فسألته عن قولهم في
المسيح لقال قولا، ثم إن خلوت بأخيه لأمه وأبيه وهو نسطوري مثله فسألته عن قولهم
في المسيح لأتاك بخلاف أخيه وصنوه. وكذلك جميع الملكانية واليعقوبية. ولذلك صرنا
لا نعقل حقيقة النصرانية، كما نعرف جميع الأديان.
على أنهم يزعمون أن الدين لا يخرج في القياس، ولا يقوم على المسائل،
ولا يثبت في الامتحان؛ وإنما هو بالتسليم لما في الكتب، والتقليد للأسلاف. ولعمري،
إن من كان دينه دينهم ليجب عليه أن يعتذر بمثل عذرهم.
وزعموا أن كل من اعتقد خلاف النصرانية من المجوس والصابئين والزنادقة
فهو معذور، ما لم يتعمد الباطل ويعاند الحق. فإذا صاروا إلى اليهود قضوا عليهم
بالمعاندة، وأخرجوهم من طريق الغلط والشبهة.
فصل منه
فأما مسألتهم في كلام عيسى في المهد: أن النصارى مع حبهم لتقوية أمره
لا يثبتونه، وقولهم إنا تقولناه ورويناه عن غير الثقات، وإن الدليل على أن عيسى لم
يتكلم في المهد أن اليهود لا يعرفونه، وكذلك المجوس، وكذلك الهند والخزر والديلم.
فنقول في جواب مسألتهم عند إنكارهم كلام المسيح في المهد مولودا:
يقال لهم: إنكم حين سويتم المسألة وموهتموها، ونظمتم ألفاظها، ظننتم
أنكم قد أنجحتم، وبلغتم غايتكم. ولعمري لئن حسن ظاهرها، وراع الأسماع مخرجها، إنها
لقبيحة المفتش، سيئة المعرى.
ولعمري أن لو كانت اليهود تقر لكم بإحياء الأربعة الذين تزعمون،
وإقامة المقعد الذي تدعون، وإطعام الجمع الكثير من الأرغفة اليسيرة، وتصيير الماء
جمدا، والمشي على الماء، ثم أنكرت الكلام في المهد من بين جميع آياته وبراهينه
لكان لكم في ذلك مقال، وإلى الطعن سبيل. فأما وهم يجحدون ذلك أجمع، فمرة يضحكون،
ومرة يغتاظون ويقولون: إنه صاحب رقى ونيرجات، ومداوي مجانين، ومتطبب، وصاحب حيل
وتربص خدع، وقراءة كتب، وكان لسنا مسكينا، ومقتولا مرجوما، ولقد كان قبل ذلك صياد
سمك، وصاحب شبك، وكذلك أصحابه. وأنه خرج على مواطأة منهم له، وأنه لم يكن لرشدة. وأحسنهم
قولا، وألينهم مذهبا من زعم أنه ابن يوسف النجار. وأنه قد كان واطأ ذلك المقعد قبل
إقامته بسنين، حتى إذا شهره بالقعدة، وعرف موضعه في الزمنى، مر به في جمع من الناس
كأنه لا يريده، فشكا إليه الزمانة وقلة الحيلة وشدة الحاجة، فقال: ناولني يدك.
فناوله يده، فاجتذبه فأقامه، فكان تجمع لطول القعود، حتى استمر بعد ذلك. وأنه لم
يحي ميتا قط، وإنما كان داوى رجلا يقال له لاعازر إذ أغمي عليه يوما وليلة، وكانت
أمه ضعيفة العقل قليلة المعرفة، فمر بها، فإذا هي تصرخ وتبكي، فدخل إليها ليسكتها
ويعزيها، وجس عرقه فرأى فيه علامة الحياة، فداواه حتى أقامه، فكانت لقلة معرفتها
لا تشك أنه قد مات، ولفرحها بحياته تثني عليه بذلك، وتتحدث به.
فكيف تستشهدون قوما هذا قولهم في صاحبكم حين قالوا: كيف يجوز أن
يتكلم صبي في المهد مولودا، فيجهله الأولياء والأعداء.
ولو كانت المجوس تقر لعيسى بعلامة واحدة وبأدنى أعجوبة، لكان لكم أن
تنكروا علينا بهم، وتستعينوا بإنكارهم. فأما وحال عيسى في جميع أمره عند المجوس
كحال زرادشت في جميع أمره عند النصارى، فما اعتلالهم به، وتعلقهم في إنكارهم؟
وأما قولكم: وكيف لم تعرف الهند والخزر والترك ذلك؟ فمتى أقرت الهند
لموسى بأعجوبة واحدة، فضلا عن عيسى؟ ومتى أقرت لنبي بآية، أو روت له سيرة، حتى
تستشهدوا الهند على كلام عيسى في المهد؟ ومتى كانت الترك والديلم والخزر والتتر
والطيلسان مذكورة في شيء من هذا الجنس، محتجا بها على هذا الضرب؟
فإن سألونا عن أنفسهم فقالوا: ما لنا لا نعرف ذلك ولم يبلغنا عن أحد
بتة؟ أجبناهم بعد إسقاط نكيرهم وتشنيعهم، وتزوير شهودهم.
وجوابنا أنهم إنما قبلوا دينهم عن أربعة أنفس: اثنان منهم من
الحواريين بزعمهم: يوحنا ومتى. واثنان من المستجيبة وهما: مارقش ولوقش، وهؤلاء
الأربعة لا يؤمن عليهم الغلط ولا النسيان، ولا تعمد الكذب، ولا التواطؤ على
الأمور، والاصطلاح على اقتسام الرياسة، وتسليم كل واحد منهم لصاحبه حصته التي
شرطها له.
فإن قالوا: إنهم كانوا أفضل من أن يتعمدوا كذبا وأحفظ من أن ينسوا
شيئا، وأعلى من أن يغلطوا في دين الله تعالى أو يضيعوا عهدا.
قلنا: إن اختلاف رواياتهم في الإنجيل، وتضادها في كتبهم، واختلافهم
في نفس المسيح، مع اختلاف شرائعهم، دليل على صحة قولنا فيهم وغفلتكم عنهم.
وما ينكر من مثل لوقش أن يقول باطلا، وليس من الحواريين، وقد كان
يهوديا قبل ذلك بأيام يسيرة، ومن هو عندكم من الحواريين خير من لوقش عند المسيح في
ظاهر الحكم بالطهارة، والطباع الشريفة، وبراءة الساحة.
فصل منه
سألتم عن قولهم: إذا كان تعالى قد اتخذ عبدا من عباده خليلا، فهل
يجوز أن يتخذ عبدا من عباده ولدا، يريد بذلك إظهار رحمته له، ومحبته إياه، وحسن
تربيته وتأديبه له، ولطف منزلته منه، كما سمى عبدا من عباده خليلا، وهو يريد
تشريفه وتعظيمه، والدلالة على خاص حاله عنده.
وقد رأيت من المتكلمين من يجيز ذلك ولا ينكره، إذا كان ذلك على
التبني والتربية والإبانة له بلطف المنزلة، والاختصاص له بالمرحمة والمحبة، لا على
جهة الولادة، واتخاذ الصاحبة. ويقول: ليس في القياس فرق بين اتخاذ الولد على
التبني والتربية وبين اتخاذ الخليل على الولاية والمحبة. وزعم أن الله تعالى يحكم
في الأسماء بما أحب، كما أن له أن يحكم في المعاني بما أحب.
وكان يجوز دعوى أهل الكتاب على التوراة والإنجيل والزبور، وكتب
الأنبياء صلوات الله عليهم في قولهم: إن الله قال: "إسرائيل بكري" أي هو
أول من تبنيت من خلقي. وأنه قال: "إسرائيل بكري، وبنوه أولادي". وأنه
قال لداود: "سيولد لك غلام، ويسمى لي ابنا، وأسمى له أبا". وأن المسيح
قال في الإنجيل: "أنا أذهب إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم"، وأن المسيح
أمر الحواريين أن يقولوا في صلواتهم: "يا أبانا في السماء، تقدس اسمك".
في أمور عجيبة، ومذاهب شنيعة، يدل على سوء عبادة اليهود، وسوء تأويل أصحاب الكتب،
وجهلهم مجازات الكلام، وتصاريف اللغات، ونقل لغة إلى لغة، وما يجوز على الله، وما
لا يجوز. وسبب هذا التأويل كله الغي والتقليد، واعتقاد التشبيه.
وكان يقول: إنما وضعت الأسماء على أقدار المصلحة، وعلى قدر ما يقابل
من طبائع الأمم. فربما كان أصلح الأمور وأمتنها أن يتبناه الله أو يتخذه خليلا، أو
يخاطبه بلا ترجمان، أو يخلقه من غير ذكر، أو يخرجه من بين عاقر وعقيم. وربما كانت
المصلحة غير ذلك كله. وكما تعبدنا أن نسميه جوّادا ونهانا أن نسميه سخيا أو سريا
وأمرنا أن نسميه مؤمنا ونهانا أن نسميه مسلما، وأمرنا أن نسميه رحيما ونهانا أن
نسميه رفيقا. وقياس هذا كله واحد، وإنما يتسع ويسهل على قدر العادة وكثرتها. ولعل
ذلك كله قد كان شائعا في دين هود وصالح وشعيب وإسماعيل، إذ كان شائعا في كلام
العرب في إثبات ذلك وإنكاره.
وأما نحن -رحمك الله- فإنا لا نجيز أن يكون لله ولد، لا من جهة
الولادة، ولا من جهة التبني. ونرى أن تجويز ذلك جهل عظيم، وإثم كبير؛ لأنه لو جاز
أن يكون أبا ليعقوب لجاز أن يكون جدا ليوسف، ولو جاز أن يكون جدا وأبا، وكان ذلك
لا يوجب نسبا، ولا يوهم مشاكلة في بعض الوجوه، ولا ينقص من عظم، ولا يحط من بهاء،
لجاز أيضا أن يكون عما وخالا؛ لأنه إن جاز أن يسميه من أجل المرحمة والمحبة والتأديب
أبا، جاز أن يسميه آخر من جهة التعظيم والتفضيل والتسويد أخا، ولجاز أن يجد له
صاحبا وصديقا؛ وهذا ما لا يجوزه إلا من لا يعرف عظمة الله، وصغر قدر الإنسان. وليس
بحكيم من ابتذل نفسه في توقير عبده، ووضع من قدره في التوفر على غيره. وليس من
الحكمة أن تحسن إلى عبدك بأن تسيء إلى نفسك، وتأتي من الفضل ما لا يجب بتضييع ما
يجب. وكثير الحمد لا يقوم بقليل الذم. ولم يحمد الله ولم يعرف إلهيته من جوز عليه
صفات البشر، ومناسبة الخلق، ومقاربة العباد.
وبعد، فلا يخلو المولى في رفع عبده وإكرامه من أحد أمرين: إما أن
يكون لا يقدر على كرامته إلا بهوان نفسه، ويكون على ذلك قادرا، مع وفارة العظمة،
وتمام البهاء. وإن كان لا يقدر على رفع قدر غيره إلا بأن ينقص من قدر نفسه فهذا هو
العجز، وضيق الذرع. وإن كان على ذلك قادرا فآثر ابتذال نفسه والحط من شرفه فهذا هو
الجهل الذي لا يحتمل. والوجهان عن الله جل جلاله منفيان.
ووجه آخر تعرفون به صحة قولي، وصواب مذهبي. وذلك أن الله تبارك
وتعالى لو علم أنه قد كان فيما أنزل من كتبه على بني إسرائيل: إن أباكم كان بكري
وابني، وإنكم أبناء بكري، لما كان تغضب عليهم إذ قالوا: {نحن أبناء الله}، فكيف لا
يكون ابن ابن الله ابنه، وهذا من تمام الإكرام، وكمال المحبة، ولا سيما إن كان قال
في التوراة: بنو إسرائيل أبناء بكري. وأنت تعلم أن العرب حين زعمت أن الملائكة
بنات الله كيف استعظم الله تعالى ذلك وأكبره، وغضب على أهله، وإن كان يعلم أن
العرب لم تجعل الملائكة بناته على الولادة واتخاذ الصاحبة. فكيف يجوز مع ذلك أن
يكون الله قد كان يخبر عباده قبل ذلك بأن يعقوب ابنه، وأن سليمان ابنه، وأن عزيرا
ابنه، وأن عيسى ابنه؟
فالله تعالى أعظم من أن يكون له أبوة من صفاته، والإنسان أحقر من أن
تكون بنوة الله تعالى من أنسابه.
والقول بأن الله يكون أبا وجدا وأخا وعما للنصارى ألزم، وإن كان
للآخرين لازما، لأن النصارى تزعم أن الله هو المسيح بن مريم، وأن المسيح قال
للحواريين: إخوتي. فلو كان للحواريين أولاد لجاز أن يكون الله عمهم، بل قد يزعمون
أن مرقش هو ابن شمعون الصفا، وأن زوزري ابنته، وأن النصارى تقر أن في إنجيل مرقش:
"مازاذ، أمك وإخوتك على الباب" وتفسير "مازاذ" معلم. فهم لا
يمتنعون من أن يكون الله تبارك وتعالى أبا وجدا وعما.
ولولا أن الله قد حكى عن اليهود أنهم قالوا: إن عزيرا ابن الله، ويد
الله مغلولة، وإن الله فقير ونحن أغنياء، وحكى عن النصارى أنهم قالوا: المسيح ابن
الله، وقال: قالت النصارى المسيح ابن الله. وقال: {لقد كفر الذين قالوا إن الله
ثالث ثلاثة} لكنت لأن أخر من السماء أحب إلي من أن ألفظ بحرف مما يقولون. ولكني لا
أصل إلى إظهار جميع مخازيهم، وما يسرون من فضائحهم، إلا بالإخبار عنهم، والحكاية منهم.
فإن قالوا: خبرونا عن الله، وعن التوراة، أليست حقا؟ قلنا: نعم.
قالوا: فإن فيها إسرائيل بكري وجميع ما ذكرتم عنا معروف في الكتب.
قلنا: إن القوم إنما أتوا من قلة المعرفة بوجوه الكلام، ومن سوء
الترجمة، مع الحكم بما يسبق إلى القلوب. ولعمري أن لو كانت لهم عقول المسلمين
ومعرفتهم بما يجوز في كلام العرب، وما يجوز على الله، مع فصاحتهم بالعبرانية،
لوجدوا لذلك الكلام تأويلا حسنا، ومخرجا سهلا، ووجها قريبا. ولو كانوا أيضا لم
يعطلوا في سائر ما ترجموا لكان لقائل مقال، ولطاعن مدخل، ولكنهم يخبرون أن الله
تبارك وتعالى قال في العشر الآيات التي كتبتها أصابع الله: "إني أنا الله
الشديد، وإني أنا الله الثقف، وأنا النار التي تأكل النيران، آخذ الأبناء بحوب
الآباء، القرن الأول والثاني والثالث إلى السابع". وأن داود قال في الزبور:
"وافتح عينك يا رب" و "قم يا رب"، و "أصغ إلي سمعك يا رب".
وأن داود خبر أيضا في مكان آخر عن الله تعالى: "وانتبه الله كما ينتبه
السكران الذي قد شرب الخمر". وأن موسى قال في التوراة: "خلق الله
الأشياء بكلمته، وبروح نفسه". وأن الله قال في التوراة لبني إسرائيل:
"بذراعي الشديدة أخرجتكم من أهل مصر". وأنه قال في كتاب إشعياء:
"احمد الله حمدا جديدا، احمده في أقاصي الأرض، يملأ الجزائر وسكانها، والبحور
والقفار وما فيها، ويكون بنو قيدار في القصور، وسكان الجبال -يعني قيدار بن
إسماعيل- ليصيحوا ويصيروا لله الفخر والكرامة، ويسبحوا بحمد الله في
الجزائر". وأنه قال على إثر ذلك: "ويخرج الرب كالجبار، وكالرجل الشجاع
المجرب، ويزجر ويصرخ، ويهيج الحرب والحمية، ويقتل أعداءه، يفرح السماء
والأرض". وأن الله قال أيضا في كتاب إشعياء: "سكتُّ، قال: هو متى أسكت،
مثل المرأة التي قد أخذها الطلق للولادة أتلهف، وإن تراني أريد أحرث الجبال
والشعب، وآخذ بالعور في طريق لا يعرفونه". وكلهم على هذا اللفظ العربي مجمع.
ومعنى هذا لا يجوزه أحد من أهل العلم، ومثل هذا كثير تركته لمعرفتكم به.
وأنت تعلم أن اليهود لو أخذوا القرآن فترجموه بالعبرانية لأخرجوه من
معانيه، ولحولوه عن وجوهه، وما ظنك بهم إذا ترجموا: {فلما آسفونا انتقمنا منهم}، و
{لتصنع على عيني}، و {السموات مطوية بيمينه}، و {على العرش استوى}، و {ناضرة إلى
ربها ناظرة}، وقوله: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا}، و {كلم الله موسى تكليما}، و
{وجاء ربك والملك صفا صفاْ.
وقد تعلم أن مفسري كتابنا وأصحاب التأويل منا أحسن معرفة وأعلم بوجوه
الكلام من اليهود ومتأولي الكتاب. ونحن قد نجد في تفسيرهم ما لا يجوز على الله في
صفته، ولا عند المتكلمين في مقاييسهم، ولا عند النحويين في عربيتهم. فما ظنك
باليهود مع غباوتهم وغيهم وقلة نظرهم وتقليدهم؟ وهذا باب قد غلطت فيه العرب
أنفسها، وفصحاء أهل اللغة إذا غلطت قلوبها، وأخطأت عقولها، فكيف بغيرهم ممن لا
يعلم كعلمها؟ سمع بعض العرب قول جميع العرب: القلوب بيد الله، وقولهم في الدعاء:
نواصينا بيد الله وقوله جل ذكره: {بل يداه مبسوطتان}، وقولهم: هذا من أيادي الله
ونعمه عندنا. وقد كان من لغتهم أن الكف أيضا يد، كما أن النعمة يد، والقدرة يد،
فغلط الشاعر فقال:
هون عليك فإن الأمور ** بكف الإله مقاديرها
وقد كان إبراهيم بن سيار النظام يجيب بجواب، وأنا ذاكره إن شاء الله،
وعليه كانت علماء المعتزلة. ولا أراه مقنعا ولا شافيا. وذلك أنه كان يجعل الخليل
مثل الحبيب ومثل الولي، وكان يقول: خليل الرحمن مثل حبيبه ووليه وناصره. وكانت
الخلة والولاية والمحبة سواء. قالوا: ولما كانت كلها عنده سواء جاز أن يسمي عبدا
له ولدا، لمكان التربية التي ليست بحضانة ولمكان الرحمة التي لا تشتق من الرحم.
لأن إنسانا لو رحم جرو كلب فرباه لم يجز أن يسميه ولدا ويسمي نفسه أبا، ولو التقط
صبيا فرباه جاز أن يسميه ولدا ويسمي نفسه له أبا، لأنه شبيه ولده وقد يولد لمثله
مثله، وليس بين الكلاب والبشر أرحام. فإذا كان شبه الإنسان أبعد من الله تعالى من
شبه الجرو بالإنسان كان الله أحق بأن يجعله ولده وينسبه إلى نفسه.
قلنا لإبراهيم النظام عند جوابه هذا وقياسه الذي قاس عليه في
المعارضة والموازنة بين قياسنا وقياسه: أرأيت كلبا ألف كلّابه وحامى وأحمى دونه،
فأحياه بكسبه ولزمه على خلائقه واستأثره بالصيد دونه، هل يجوز أن يتخذه بذلك كله
خليلا مع بعد التشابه والتناسب؟ فإذا قال: لا، قلنا: فالعبد الصالح أبعد شبها من
الله من ذلك الكلب المحسن إلى كلّابه، فكيف جاز في قياسك أن يكون الله خليل من لا
يشاكله لمكان إحسانه ولا يجوز للكلّاب أن يسمي كلبه خليلا أو ولدا لمكان حسن
تربيته له وتأديبه إياه ولمكان حسن الكلب وكسبه عليه وقيامه مقام الولد الكاسب
والأخ والبار؟ والعبد الصالح لا يشبه الله في وجه من الوجوه. والكلب قد يشبه
كلّابه لوجوه كثيرة، بل ما أشبهه به مما خالفه فيه.. وإن كانت العلة التي منعت من
تسمية الكلب خليلا وولدا بعد شبهه من الإنسان.
فلو قلتم: فما الجواب الذي أجبت فيه والوجه الذي ارتضيته؟
قلنا: إن إبراهيم صلوات الله عليه وإن كان خليلا فلم يكن خليله بخلة
كانت بينه وبين الله تعالى، لأن الخلة والإخاء والصداقة والتصافي والخلطة وأشباه
ذلك منفية عن الله تعالى عز ذكره فيما بينه وبين عباده. على أن الإخاء والصداقة
داخلتان في الخلة، والخلة أعم الاسمين وأخص الحالين. ويجوز أن يكون إبراهيم خليلا
بالخلة التي أدخلها الله على نفسه وماله. وبين أن يكون خليلا بالخلة وأن يكون
خليلا بخلة بينه وبين ربه فرق ظاهر وبون واضح. وذلك أن إبراهيم عليه السلام اختل
في الله تعالى اختلالا لم يختلله أحد قبله، لقذفهم إياه في النار وذبحه ابنه وحمله
على ماله في الضيافة والمواساة والأثرة وبعداوة قومه والبراءة من أبويه في حياتهما
وبعد موتهما وترك وطنه والهجرة إلى غير داره ومسقط رأسه، فصار لهذه الشدائد مختلا
في الله وخليلا في الله. والخليل والمختل سواء في كلام العرب.
والدليل على أن يكون الخليل من الخَلة كما يكون من الخُلة قول زهير
بن أبي سلمى وهو يمدح هرما:
وإن أتاه خليل يوم مسألة ** يقول لا عاجز مالي ولا حرم
وقال آخر:
وإني إلى أن تسعفاني بحاجة ** إلى آل ليلى مرة لخليل
وهو لا يمدحه بأن خليله وصديقه يكون فقيرا سائلا يأتي يوم المسألة
ويبسط يده للصدقة والعطية، وإنما الخليل في هذا الموضع من الخَلة والاختلال لا من
الخُلة والخلال.
وكأن إبراهيم عليه السلام حين صار في الله مختلا أضافه الله إلى نفسه
وأبانه بذلك عن سائر أوليائه، فسماه خليل الله من بين الأنبياء كما سمى الكعبة بيت
الله من بين جميع البيوت، وأهل مكة أهل الله من بين جميع البلدان، وسمى ناقة صالح
عليه السلام ناقة الله من بين جميع النوق. وهكذا كل شيء عظمه الله تعالى من خير
وشر وثواب وعقاب، كما قالوا: دعه في لعنة الله وفي نار الله وفي حرقه. وكما قال
للقرآن كتاب الله، وللمحرم شهر الله. وعلى هذا المثال قيل لحمزة رحمة الله ورضوانه
عز ذكره عليه أسد الله، ولخالد رحمة الله عليه سيف الله تعالى.
وفي قياسنا هذا لا يجوز أن الله خليل إبراهيم كما يقال إن إبراهيم
خليل الله.
فإن قال قائل: فكيف لم يقدموه على جميع الأنبياء إذ كان الله قدمه
بهذا الاسم الذي ليس لأحد مثله؟
قلنا: إن هذا الاسم اشتق له من عمله وحاله وصفته. وقد قيل لموسى عليه
السلام كليم الله، وقيل لعيسى روح الله، ولم يقل ذلك لإبراهيم ولا لمحمد صلوات
الله عليهما وإن كان محمد صلى الله عليه وسلم أرفع درجة منهم، لأن الله تعالى كلم
الأنبياء عليهم السلام على ألسنة الملائكة، وكلم موسى كما كلم الملائكة فلهذه
العلة قيل كليم الله. وخلق في نطف الرجال أن قذفها في أرحام النساء على ما أجرى
عليه تركيب العالم وطباع الدنيا، وخلق في رحم مريم روحا وجسدا على غير مجرى العادة
وما عليه المناكحة، فلهذه الخاصة قيل له روح الله.
وقد يجوز أن يكون في نبي من الأنبياء خصلة شريفة ولا تكون تلك الخصلة
بعينها في نبي أرفع درجة منه، ويكون في ذلك النبي خصال شريفة ليست في الآخر. وكذلك
جميع الناس كالرجل يكون له أبوان فيحسن برهما وتعاهدهما والصبر عليهما، وهو أعرج
لا يقدر على الجهاد وفقير لا يقدر على الإنفاق، ويكون آخر لا أب له ولا أم له وهو
ذو مال كثير وخلق سوي وجلد ظاهر، فأطاع هذا بالجهاد والإنفاق وأطاع ذلك ببر والديه
والصبر عليهما. والكلام إذا حرك تشعب وإذا ثبت أصله كثرت فنونه واتسعت طرقه. ولولا
ملالة القارىء ومداراة المستمع لكان بسط القول في جميع ما يعرض أتم للدليل وأجمع
للكتاب، ولكنا إنما ابتدأنا الكتاب لنقتصر به على كسر النصرانية فقط.
فصل منه
قلنا في جواب آخر: إن كان المسيح إنما صار ابن الله لأن الله خلقه من
غير ذكر، فآدم وحواء إذ كانا من غير ذكر وأنثى أحق بذلك، إن كانت العلة في اتخاذه
ولدا أنه خلقه من غير ذكر.
وإن كان ذلك لمكان التربية فهل رباه إلا كما ربى موسى، وداود، وجميع
الأنبياء. وهل تأويل رباه إلا غذاه، ورزقه، وأطعمه، وسقاه، فقد فعل ذلك بجميع
الناس. ولم سميتم سقيه لهم وإطعامه إياهم تربية؟ ولم رباه وأنتم لا تريدون إلا
غذاه ورزقه، وهو لم يحضنه، ولم يباشر تقليبه، ولم يتول بنفسه سقيه وإطعامه، فيكون
ذلك سببا له دون غيره، وإنما سقاه لبن أمه في صغره، وغذاه بالحبوب والماء في كبره.
فصل منه
والأعجوبة في آدم عليه السلام أبدع، وتربيته أكرم، ومنقلبه أعلى
وأشرف، إذ كانت السماء داره، والجنة منزله، والملائكة خدامه. بل هو المقدم
بالسجود، والسجود أشد الخضوع. وإن كان بحسن التعليم والتثقيف؛ فمن كان الله تعالى
يخاطبه، ويتولى مناجاته دون أن يرسل إليه ملائكته ويبعث إليه رسله، أقرب منزلة،
وأشرف مرتبة، وأحق بشرف التأديب وفضيلة التعليم.
وكان الله تعالى يكلم آدم كما كان يكلم ملائكته، ثم علمه الأسماء
كلها؛ ولم يكن ليعلمه الأسماء كلها إلا بالمعاني كلها، فإذا كان ذلك كذلك فقد علمه
جميع مصالحه ومصالح ولده، وتلك نهاية طباع الآدميين، ومبلغ قوى المخلوقين.
فصل منه
فأما قولهم إنا نقول على الناس ما لا يعرفونه، ولا يجوز أن يدينوا
به، وهو قولنا إن اليهود قالت: إن الله تعالى فقير ونحن أغنياء. وأنها قالت: إن يد
الله مغلولة، وإنها قالت: إن عزيرا ابن الله. وهم مع اختلافهم وكثرة عددهم، ينكرون
ذلك ويأبونه أشد الإباء.
قلنا لهم: إن اليهود لعنهم الله تعالى كانت تطعن على القرآن، وتلتمس
نقضه، وتطلب عيبه، وتخطىء فيه صاحبه، وتأتيه من كل وجه، وترصده بكل حيلة، ليلتبس
على الضعفاء، وتستميل قلوب الأغبياء. فلما سمعت قول الله تعالى لعباده الذين
أعطاهم قرضا، وسألهم قرضا على التضعيف، فقال عز من قائل: {من ذا الذي يقرض الله قرضا
حسنا فيضاعفه له}. قالت اليهود على وجه الطعن والعيب والتخطئة والتعنت: تزعم أن
الله يستقرض منا، وما استقرض منا إلا لفقره وغنانا، فكفرت بذلك القول إذ كان على
وجه التكذيب والتخطئة، لا على وجه أن دينها كان في الأصل أن الله فقير، وأن عباده
أغنياء. وكيف يعتقد إنسان أن الله عاجز عما يقدر عليه، مع إقراره بأنه الذي خلقه
ورزقه، وإن شاء حرمه، وإن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه. وقدرته على جميع ذلك كقدرته
على واحد.
ومجاز الآية في اللغة واضح، وتأويلها بين. وذلك أن الرجل منهم كان
يقرض صاحبه لإرفاقه، ليعود إليه مع أصل ماله اليسير من ربحه، ثم هو مخاطر به إلى
أن يعود في ملكه. فقال لهم بحسن عادته ومنته: آسوا فقراءكم، وأعطوا في الحق
أقرباءكم، من المال الذي أعطيتكم، والنعمة التي خولتكم، بأمري إياكم وضماني لكم،
فأعتده منكم قرضا وإن كنت أولى به منكم، فأنا موفيكم حقوقكم إلى ما لا ترتقي إليه
همة ولا تبلغه أمنية. على أنكم قد أمنتم من الخطار، وسلمتم من التغرير.
والرجل يقول لعبده: أسلفني درهما، عند الحاجة تعرض له، وهو يعلم أن
عبده وماله له. وإنما هذا كلام وفعال يدل على حسن الملكة، والتفضل على العبد
والأمة، وإخبار منه لعبده أنه سيعيد عليه ما كانت سخت به نفسه.
وهذا ليس بغلط في الكلام ولا بضيق فيه، ولكن المتعنت يتعلق بكل سبب،
ويتشبث بكل ما وجد.
وأما إخباره عن اليهود أنها قالت: يد الله مغلولة، فلم يذهب إلى أن
اليهود ترى أن ساعده مشدودة إلى عنقه بغل. وكيف يذهب إلى هذا ذاهب ويدين به دائن،
لأنه لا بد أن يكون يذهب إلى أنه غل نفسه أو غله غيره. وأيهما كان، فإنه منفي عن
وهم كل بالغ يحتمل التكليف، وعاقل يحتمل التثقيف. ولكن اليهود قوم جبرية، والجبرية
تبخّل الله مرة، وتظلمه مرة، وإن لم تقر بلسانها، وتشهد على إقرارها، بقولهم: يد
الله مغلولة، يعنون بره وإحسانه. وقولهم: مغلولة، لا يعني أن غيره حبسه ومنعه،
ولكن إذا كان عندهم أنه الذي منع أياديه وحبس نعمه، فهي محبوسة بحبسه، وممنوعة
بمنعه. والذي يدل على أنهم أرادوا باليدين النعمة والإفضال، دون الساعد والذراع،
جواب كلامهم حين قال: {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} دليلا على ما قلنا، وشاهدا
على ما وصفنا.
فإن قالوا: فكيف لم يقل إن اليهود بخّلت الله وجحدت إحسانه، دون أن
يقال إن يد الله مغلولة؟ قلنا: إن أراد الله الإخبار عن كفر قوم وسخط عليهم، فليس
لهم عليه أن يعبر عن دينهم وعيوبهم بأحسن المخارج، ويجليها بأحسن الألفاظ. وكيف
وهو يريد التنفير عن قولهم، وأن يبغضهم إلى من سمع ذلك عنهم. ولو أراد الله تعالى
تليين الأمر وتصغيره وتسهيله، لقال قولا غير هذا. وكل صدق جائز في الكلام. فهذا
مجاز مسألتهم في اللغة، وهو معروف عند أهل البيان والفصاحة.
وأما قولهم: إن اليهود لا تقول إن عزيرا ابن الله. فإن اليهود في ذلك
على قولين: أحدهما خاص، والآخر عام في جماعتهم.
فأما الخاص، فإن ناسا منهم لما رأوا عزيرا أعاد عليهم التوراة من
تلقاء نفسه، بعد دروسها وشتات أمرها، غلوا فيه، وقالوا ذلك، وهو مشهور من أمرهم.
وإن فريقا من بقاياهم لباليمن والشام وداخل بلاد الروم. وهؤلاء بأعيانهم يقولون:
إن إسرائيل الله ابنه، وإذا كان ذلك على خلاف تناسب الناس، وصار ذلك الاسم لعزير
بالطاعة والعلامة والمرتبة لأنه من ولد إسرائيل.
والقول الذي هو عام فيهم إن كل يهودي ولده إسرائيل فهو ابن الله، إذ
لم يجدوا ابن ابن قط إلا وهو ابن.
فصل منه
فإن قالوا: أليس المسيح روح الله وكلمته، كما قال عز ذكره: {وكلمته
ألقاها إلى مريم وروح منه} أوليس قد أخبر عن نفسه حين ذكر أمه أنه نفخ فيها من
روحه؟ أوليس مع ذلك قد أخبر عن حصانة فرجها وطهارتها؟ أوليس مع ذلك قد أخبر أنه لا
أب له، وأنه كان خالقا، إذ كان يخلق من الطين كهيئة الطير، فيكون حيا طائرا؟ فأي
شيء بقي من الدلالات على مخالفته لمشاكلة جميع الخلق، ومباينة جميع البشر؟
قلنا لهم: إنكم إنما سألتمونا عن كتابنا، وما يجوز في لغتنا وكلامنا،
ولم تسألونا عما يجوز في لغتكم وكلامكم. ولو أننا جوزنا ما في لغتنا ما لا يجوز،
وقلنا على الله تعالى ما لا نعرف، كنا بذلك عند الله والسامعين في حد المكاثرين،
وأسوأ حالا من المنقطعين، وكنا قد أعطيناكم أكثر مما سألتم، وجزنا بكم فوق أمنيتكم.
ولو كنا إذا قلنا: عيسى روح الله وكلمته، وجب علينا في لغتنا أن
يجعله الله ولدا، ونجعله مع الله تعالى إلها، ونقول: إن روحا كانت في الله فانفصلت
منه إلى بدن عيسى وبطن مريم. فكنا إذا قلنا: إن الله سمى جبريل روح الله وروح
القدس، وجب علينا أن نقول فيه ما يقولون في عيسى. وقد علمتم أن ذلك ليس من ديننا،
ولا يجوز ذلك بوجه من الوجوه عندنا، فكيف نظهر للناس قولا لا نقوله، ودينا لا
نرتضيه.
ولو كان قوله جل ذكره: {فنفخنا فيه من روحنا} يوجب نفخا كنفخ الزق،
أو كنفخ الصائغ في المنفاخ، وأن بعض الروح التي كانت فيه انفصلت فاصلة إلى بطنه
وبطن أمه، لكان قوله في آدم يوجب له ذلك، لأنه قال: {وبدأ خلق الإنسان من طين ثم
جعل نسله}.. إلى قوله: {ونفخ فيه من روحه} وكذلك قوله: {فإذا سويته ونفخت فيه من
روحي فقعوا له ساجدين}.
والنفخ يكون من وجوه، والروح يكون من وجوه. فمنها ما أضافه إلى نفسه،
ومنها ما لم يضفه إلى نفسه. وإنما يكون ذلك على قدر ما عظم من الأمور، فمما سمى روحا
وأضافه إلى نفسه، جبريل الروح الأمين، وعيسى بن مريم. والتوفيق كقول موسى حين قال:
إن بني فلان أجابوا فلانا النبي ولم يجيبوك. فقال له: إن روح الله مع كل أحد.
وأما القرآن فإن الله سماه روحا، وجعله يقيم للناس مصالحهم في دنياهم
وأبدانهم، فلما اشتبها من هذا الوجه ألزمهما اسمهما فقال لنبيه ﷺ: {وكذلك أوحينا
إليك روحا من أمرنا} وقال: {تنزل الملائكة والروح}
فصل منه
قد قلنا في جواباتهم وقدمنا مسائلهم بما لم يكونوا ليبلغوه لأنفسهم،
ليكون الدليل تاما والجواب جامعا، وليعلم من قرأ هذا الكتاب، وتدبر هذا الجواب،
أنا لم نغتنم عجزهم، ولم ننتهز غرتهم. وأن الإدلال بالحجة، والثقة بالفلج والنصرة،
هو الذي دعانا إلى أن نخبر عنهم بما ليس عندهم، وألا نقول في مسألتهم بمعنى لم
ينتبه له منتبه، أو يشر إليه مشير، وألا يوردوا فيما يستقبلون، على ضعفائنا ومن
قصر نظره منا، شيئا إلا والجواب قد سلف فيهم، وألسنتهم قد أدلت به.
فيقال لهم: هل يخلو المسيح أن يكون إنسانا بلا إله أو إلها بلا إنسان
أو أن يكون إلها وإنسانا؟
فإن زعموا أنه كان إلها بلا إنسان قلنا لهم: فهو الذي كان صغيرا فشب
والتحى، والذي كان يأكل ويشرب وينجو ويبول، وقُتل بزعمكم وصلب، وولدته مريم
وأرضعته، أم غيره هو الذي كان يأكل ويشرب على ما وصفنا؟
فأي شيء معنى الإنسان إلا ما وصفنا وعددنا، وكيف يكون إلها بلا إنسان
وهو الموصوف بجميع صفات الإنسان؟ وليس القول في غيره ممن صفته كصفته إلا كالقول
فيه كاشتمالها على غيره.
وإن زعموا أنه لم ينقلب عن الإنسانية ولم يتحول عن جوهر البشرية ولكن
لما كان اللاهوت فيه صار خالقا سمي إلها، قلنا لهم: خبرونا عن اللاهوت أكان فيه
وفي غيره أم كان فيه دون غيره؟
فإن زعموا أنه كان فيه وفي غيره فليس هو أولى بأن يكون خالقا ويتسمى
إلها من غيره. وإن كان فيه دون غيره فقد صار اللاهوت جسما.
وسنقول في الكسر عليهم إذا صرنا إلى القول في التشبيه، وهو قول
منعلهم والذي كان عليه جماعتهم إلا من خالفهم من متكلميهم ومتفلسفيهم، فإنهم
يقولون بالتشبيه والتجسيم فرارا من كثرة الشناعة وعجزا عن الجواب، وكفى بالتشبيه
قبحا. وهو قول يعم اليهود وإخوانهم من الرافضة وشياطينهم من المشبهة الحشوية
والنابتة. وهو بعد متفرق في الناس. والله تعالى المستعان.